走れメロス اركض يا ميلوس! (قصة قصيرة مترجمة لأوسامو دازاي)

اركض يا ميلوس!

走れメロス

تأليف: أوسامو دازاي 太宰治

ترجمة: فوزي خيري


 

استشاط ميلوس غضبًا. قرر أن يتخلص من هذا الملك المستبد الشرير. لم يعرف ميلوس شيئًا عن السياسة، فكان راعي غنم في إحدى القرى، حياته تقتصر على عزف الناي ورعاية الغنم. ولكن كانت حساسيته للشر أقوى من أي شخصٍ آخر.

 قبل طلوع الفجر في ذلك اليوم بالتحديد خرج ميلوس من القرية مسافرًا مسافة ما يقارب الخمسة وعشرين ميلًا عبر حقولٍ وجبالٍ حتى وصل مدينة سيراكوس. لم يكن لميلوس أب أو أم أو زوجة، كان يعيش مع أخته الصغيرة الخجولة صاحبة الستة عشر عامًا التي أقبلت على الزواج من راعي غنم مجتهد وأمين. وقد اقترب حفل الزفاف أيضًا، لذا ذهب ميلوس إلى تلك المدينة البعيدة ليشتري لها فستان الزفاف والطعام والشراب من أجل وليمة الحفل. اشترى أولًا هذه الأشياء ثم أخذ يتسكع في الشوارع الكبيرة بالعاصمة. كان بالمدينة صديق طفولة لميلوس يدعى سليتينتيوس، يعمل بمثابة عامل بناء بالحجارة، ونوى ميلوس أن يزوره بعد ذلك، وكان يتشوق لزيارته لأنه لم يره منذ فترة طويلة. وبينما كان يتمشى ميلوس، لاحظ شيئًا غريبًا في حال المدينة، فقد كانت هادئة بشكلٍ مريب، كانت الشمس قد غربت ومن الطبيعي أن تكون الشوارع مظلمة ولكن لسبب ما لم يكن الجو الحزين الذي ساد المدينة بأكملها فعلة الليل وحده فقط. لدرجة أن ميلوس هادئ البال بدأ يشعر بعدم الارتياح هو أيضًا. قابل شابًّا في الشارع وسأله "هل حدث شيءٌ ما؟ عندما جئت هذه المدينة منذ سنتين كان الجميع يتغنى والمدينة حيوية حتى أثناء الليل..." ولكن هز الشاب رأسه ولم يجاوبه. مشى قليلًا وقابل رجلًا عجوزًا، وهذه المرة سأل بنبرة أقوى، ولم يجب العجوز. هز ميلوس جسد الرجل العجوز بكلتا يديه وأصر على سؤاله. أعطى الرجل العجوز إجابة قصيرة بصوت منخفض متردد.

"الملك ... يقتل الناس."

"لماذا يقتلهم؟"

"يقول إنهم مليئون بالنوايا الشريرة، ولكن بالطبع هذا غير صحيح"

"هل قتل الكثير؟"

"أجل، أولا زوج أخته الصغيرة، وبعده الأمير ابنه الوريث، وبعده أخته وطفلها، وبعدهما زوجته الملكة وبعدها مستشاره أليكيس...."

"هذا غير معقول، هل جن عقله؟"

"لا، لم يجن ولكنه يقول إنه لا يستطيع أن يثق بالناس، فمؤخرًا كوّن شكوكًا تجاه خدمه وأمر الأثرياء منهم أن يقدم كل واحد منهم له شخصًا كرهينة، ومن يرفض يُعلق على صليبٍ ويُقتَل. واليوم قد قُتِل ستة أشخاص."

استشاط غضب ميلوس عندما سمع هذا الكلام. "أي نوع من الملوك هذا؟ لا يجب تركه حيًّا!"

كان ميلوس رجلًا بسيطًا، تمشّى بثِقَل إلى قصر الملك حاملًا مشترياته على ظهره ودخل. سرعان ما قبض عليه حراس الدورية وفتشوه، فوجدوا خنجرًا في جيبه. فازدادت الضجة وجروه إلى أمام الملك.

سأله ديونيس الطاغي بجلالة هادئة "ما الذي كنت تنوي فعله بهذا السيف الصغير؟ تكلم!" كان وجه هذا الملك شاحبًا والتجاعيد التي بين حاجبيه عميقة كأنها محفورة.

جاوبه ميلوس بشجاعة "جئت لأخلص المدينة من يدي ملكها الطاغي".

ضحك الملك بشفقة وسخرية "ستخلصها أنت؟"

"أنت الذي ما بيدك حيلة، لن تفهم وحدتي."

غضب ميلوس ورد "توقف!". "الشك في قلوب الناس هو أسوء رزيلة مخزية، وأنت يا ملكي تشكك في ولاء رعاياك".

"أنتم من علمتموني أن الشك سلوك مُبرّر، قلب الإنسان ليس جديرًا بالثقة، ففي الأصل البشر أنانيون ويركزون على منفعتهم الشخصية، ولا يجب الثقة بهم."

 تنهد وهدأ الملك الطاغي ثم تمتم "أنا أيضًا كنت أريد السلام."

ابتسم ميلوس ساخرًا هذه المرة "سلام من أجل ماذا؟ أمن أجل حماية عرشك؟" "تقتل أبرياء وتدعوه سلامًا؟"

رفع الملك رأسه بسرعة "اخرس أيها الوضيع. يمكنك قول كل ماهو نقي بالفم، أمّا أنا فيمكنني رؤية ما بداخل المرء، حتى أنت أراك تبكي وتتوسل بعد قليل عندما تُعلّق على الصليب ولن أعيرك اهتمامًا"

"أجل، ملك حكيم. من الطبيعي أن تغتر بنفسك، ومع ذلك أنا مستعد للموت ولن أتوسل من أجل حياتي أبدًا ولكن ... " لم يكمل ميلوس حديثه وتردد للحظة ونظر بعينيه للأسفل "ولكن إذا ستمنحني طلبًا أخيرًا، أرجو أن تعطيني مهلة ثلاثة أيام قبل الإعدام، أريد أن أسلم أختي الصغيرة الوحيدة لرجُلها، في خلال ثلاثة أيام سأعود لقريتي وأقيم حفل الزفاف ثم أعود هنا بالتأكيد"

ضحك الطاغي بصوتٍ أجش "كلامٌ فارغ"

"إنك تهذي بأكاذيب غير معقولة. فهل يعود العصفور الذي فتحت له القفص؟!"

قال ميلوس بإصرار شديد "بلى، سأعود!"

"سأفي بوعدي! اسمح لي بثلاثة أيام فقط، فإن أختي تنتظر عودتي. وإن كنت لا تصدقني لهذه الدرجة لا بأس، هناك عامل بناء بالحجارة يدعى سليتينتيوس في هذه المدينة، هو صديقي الوحيد. خذه هنا رهينة. إن هربتُ أو لم أعد إلى هنا حتى غروب شمس اليوم الثالث، اخنق صديقي حتى الموت، أرجوك، اسمح لي."

عندما سمع الملك ذلك، ضحك ضحكة قاسية وخفيفة. يا له من صفيق، بالطبع لن يعود، ولكن سيكون من الممتع أيضًا أن أتظاهر بأنني قد وقعت في كذبته وأتركه يذهب. وبذلك سينتابني شعور جيد عندما أقتل الرجل البديل في اليوم الثالث. أشاهده يُصلب بوجه حزين كأنني أقول له أن البشر ليسوا جديرين بالثقة. أريد أن أُري هذا لكل من يدّعون الأمانة في هذا العالم.

"سأنفذ طلبك. استدعوا الرجل البديل. إن لم تأت في غروب شمس اليوم الثالث أو تأخرت، سأقتل هذا الرجل البديل بالتأكيد. يمكنك أن تأتيَ متأخرًا قليلًا سأبرئك من جريمتك للأبد".

"ماذا! .. ما الذي تقوله؟"

"تأخر إن كنت تقدّر حياتك، فأنا أعرف نواياك."

ضرب ميلوس الأرض بقدمه في غضب وضيق ولم يعد يريد قول كلمة واحدة أخرى.

استُدعيَ سليتينتيوس للقصر الملكي متأخرًا في الليل. في حضور الطاغية ديونيس، التقى صديق جيد مع صديقه الجيد لأول مرة منذ عامين، وأخبر ميلوس صديقه بكل شيء. أومأ سليتينتيوس ولم يقل شيئًا، وضمه ميلوس بشدة. بالنسبة لصديقين جيدين كان هذا كافيًا. رُبط سليتينتيوس بالحبال وأٌطلق صراح ميلوس وانطلق في الحال. كانت سماء بداية الصيف ممتلئة بالنجوم.

في هذه الليلة، أخذ ميلوس يسرع ويسابق الخمسة وعشرين ميلًا في عجالة بدون التوقف للنوم، ووصل القرية في صباح اليوم التالي، وقد طلعت الشمس بالفعل وخرج القرويون إلى الحقول وبدأوا بالعمل. كانت أخته الصغيرة صاحبة الستة عشر عامًا ترعى قطيع الغنم في غيابه بدلًا منه. تفاجأت عندما رأت هيئة أخيها التي غلب عليها الإرهاق وهو يأتي ماشيًا مترنحًا، وطرحت عليه شلالًا من الأسئلة بصخب.

حاول ميلوس إجبار نفسه على الابتسام "لم يحدث شيء"

"تبقى لي شيء لأنجزه في المدينة، يجب أن أعود مجددًا سريعًا. غدًا، سنقيم حفل زفافك غدًا، كلما كان أبدر كان أفضل."

احمرّ وجه أخته الصغيرة في خجل.

"هل أنتِ سعيدة؟ اشتريتُ لكِ فستانًا جميلًا. هيا، اِذهبي وأعلِمي القرية أن حفل الزفاف سيكون غدًا!"

مشى ميلوس متعثرًا مجددًا إلى بيته وصلى أمام مذبح الآلهة ثم حضّر مقاعد الوليمة وسرعان ما انهار على الأرض ونام نومًا عميقًا كالأموات.

عندما أستيقظ كان الليل قد حل. قام وذهب فورًا إلى بيت العريس وطلب منهم أن يجعلوا حفل الزفاف يوم الغد بسبب بعض الظروف الطارئة. تفاجأ العريس راعي الغنم، وقال إن هذا لا يُمكن حيث إنه مازال لم ينتهِ من الترتيبات بعد، وأجابه بأن ينتظر حتى موسم حصاد العنب. أصر ميلوس الذي لا يمكنه الانتظار على طلبه وتوسل إليه أن يجعله يوم الغد. ولكن عاند العريس راعي الغنم أيضًا، ولم يحصل منه على الموافقة، استمروا في النقاش حتى الفجر، وأخيرًا استطاع ميلوس إقناع الشاب أن يوافق.

 أُقيم حفل الزفاف في وسط الظهيرة، وعندما أنهيا العروسان القَسَم أمام الآلهة، امتلأت السماء بالسحب وأمطرت مطرًا خفيفًا وبعد فترة وجيزة أصبح سيلًا غزيرًا، اعتقد المدعوون أن هذا فأل سيء ولكنهم تجاهلوا الأمر وجعلوا أنفسهم مبتهجين على الرغم من الحرارة والرطوبة الشديدة داخل المنازل الصغيرة، كانوا جميعًا يغنون ويصفقون بمرح. حتى ميلوس كانت الفرحة تملأ وجهه، لدرجة أنه نسي وعده مع الملك. وفي الليل ازداد الصخب وأصبح الضيوف غير مبالين بهطول المطر الغزير الذي في الخارج. تمنى ميلوس أن تستمر هذه اللحظة إلى الأبد، أن يعيش بين هؤلاء الأشخاص الصالحين طوال حياته هكذا، ولكن جسده لم يعد ملكه، ليس بعد الآن. ثبتّ عزيمته وقرر الانطلاق. ولكن لا يزال هناك بعض الوقت حتى غروب اليوم التالي، لذا فكر أن ينطلق بعد أن يحظى بقيلولة قصيرة، ولعل يهدأ المطر خلال هذه الفترة. كان يريد البقاء في منزله لأطول فترة ممكنة، فحتى الرجال مثل ميلوس يشعرون بالتردد في التخلي عن أولئك الذين يحبوهم. اقترب من العروس، التي كانت في حالة ذهول طوال فترة الحفل وكأنها ثملة من شدة فرحها.

"مبارك لكما، أنا متعب لذلك أريد أن آخذ قسطًا من الراحة وأخلد إلى النوم، وعندما أستيقظ سأذهب للمدينة على الفور. فلدي أمور هامة هناك لأنجزها. حتى لو لم أكن موجودًا فلا بأس، لديكِ رجلكِ الحنون الآن ليرعاكِ ولن يكون هناك شيئٌ عسيرٌ عليكِ. إن أكثر ما يكرهه أخوكِ هو الشكّ في قلوب الناس والكذب، أنتِ تعرفين هذا بالفعل، لا يجب أن يكون سرًّا بينكما. هذا كل ما أريد قوله لكما، ربما أخوكِ رجل عظيم فافتخري به أيضًا."

أومأت العروس في اِنذهال، وبعد ذلك اتجه ميلوس ناحية العريس وربت على كتفه. "لم يكن لدى أي منا الوقت لاتخاذ الترتيبات المناسبة، الكنز الوحيد الذي أمتلكه هو أختي وقطيع الغنم، هما لكَ الآن، ولكن اسألك في المقابل أن تكون فخورًا دائمًا بأنك أصبحت أخو ميلوس."

فرك العريس يداه في خجل عاجزًا عن الرد. ضحك ميلوس وحيا أقل القرية وقام ومشى من الحفل، دخل حظيرة الخراف ونام نومًا عميقًا كالقتيل.

أستيقظ في غَسَق اليوم التالي، قفز واقفًا، يا إلهي! هل أفرطت في النوم؟ لا، لا مشكلة بعد، إن انطلقت فورًا سيكون لدي وقتًا كافيًا لأصل قبل الوقت الموعود. اليوم بالتأكيد سأري هذا الملك وجود الصدق، سأفعل ذلك ثم أصعد إلى خشبة الصليب وأنا مبتسم.

بدأ ميلوس بتجهيز ملابسه بهدوء، كما أن المطر يبدو أنه أصبح هادئًا قليلًا الآن، وعندما انتهى ميلوس من تبديل ملابسه استجمع شجاعته ودفع الباب دفعة قوية بذراعيه الاثنين وبدأ في الجري وسط المطر منطلقًا كالسهم.

أنا، سأُقتَل هذا الغروب. أنا أركض من أجل الموت. أركض من أجل انقاذ صديقي الذي أخذ مكاني. أركض لأفسد خطط وألاعيب هذا الملك الشريرة. علي أن أركض! ثم سأٌقتل أنا. سأحمي شرفي في شبابي!

 الوداع ياقريتي، كانت حياة ميلوس الشاب قاسية. كاد يتوقف عدة مرات فيوبخ نفسه بصوتٍ عالٍ بينما يركض. خرج من القرية ثم عَبَرَ الحقول ثم عافر في عبور الغابة، وقد طلعت الشمس عاليًا وتوقف المطر عندما وصل إلى القرية المجاورة، أوشك الطقس أن يكون حارًا. مسح بقبضته العرق الذي يتصبب من جبهته وفكر في نفسه الآن بعد أن وصل إلى هذا الحد، لم يعد فريسة لتشتت الأفكار عن المنزل والقرية.

 من المؤكد أن أختي وزوجها سيصيران سعيدان معًا. لا يوجد ما يشغل تفكيري الآن. عادت له شخصيته الغير مبالية؛ إذا ذهبت مباشرة إلى القصر الملكي، هذا كافي. ليس هناك حاجة للاستعجال، سأسير على مهلي. وبدأ بغناء أغنيته المفضلة.

أخذ يمشي على راحته، يقطع ميلان فثلاث في هدوء، ولكن عندما وصل منتصف الطريق تقريبًا إلى المدينة، وجد أمامه كارثة أدت إلى توقفه. أنظر هناك! السيول من ليلة أمس تسببت في فيضان الينابيع الجبلية، وتجمعت المياه الموحلة في مجرى النهر مدمرة الجسور مرة واحدة بقوتها الغاشمة. فوقف منذهلًا. أخذ ينظر حوله هنا وهناك ورفع صوته بأقصى ما لديه ينادي، لكن الأمواج جرفت جميع المعديات ولم يرَ مراكبي في أي مكان. يزداد تدفق المياه شيئًا فشيئًا حتى كاد يصبح مثل البحر.

 جثم ميلوس على ضفة النهر ورفع يده إلى زيوس وبكى بدموع الرجال. "فلتهدأي أيتها الأمواج الغاضبة! الوقت يمر بي، وها قد شارفت الشمس على الظهيرة، إذا لم أتمكن من الوصول إلى القصر الملكي قبل أن تغرب، سيموت صديقي العزيز من أجلي."

إزداد التيار الموحل يرقص في هياج وكأنه يضحك أمام ميلوس ويسخر من صراخه. تبتلع موجة الأخرى ويتحدا ثم يلفان في حركة عنيفة. ويتسرب الوقت من ميلوس، فتأهب، لا توجد طريقة سوى السباحة حتى الضفة الأخرى.

راقبوا هذا بعناية أيتها الآلهة! شاهدوا عظمة قوة الحب والصدق، سأريكم إياها الآن! قفز ميلوس في التيار وبدأ صراعًا يائسًا ضد الأمواج الهائجة التي جلدته وتلووا حوله مثل مئة ثعبان عملاق. وضع كل قوته في ذراعيه ودفع طريقه عبر التيارات الدوامة، ولعل الرب قد شعر بالأسف تجاهه وأخيرًا أشفق على الشاب الفاني. كان ينجرف بعيدًا إلا أنه تمكن من التشبث بجذع شجرة على الضفة الأخرى من النهر، حمدًا للرب. ارتجف ميلوس كالحصان وهرع إلى الأمام، فلا يمكنه تضييع ولا حتى لحظة واحدة، كانت الشمس تنزل بالفعل إلى الغرب. صعد من الممر الجبلي وحاول لهث أنفاسه، ولكن ظهر أمامه فجأة مجموعة من قطاع طرق.

"قف يا أنت"

"ماذا أنتم فاعلون؟ عليّ أن أذهب إلى القصر الملكي قبل غروب الشمس. اتركوني وشأني."

"لن نتركك حتى تعطينا كل ما لديك."

"ليس لدي شيء، كل ما لدي هو حياتي، والتي يجب أن أقدمها للملك اليوم."

"إذن فحياتك هي ما سنأخذه"

"مهلا، أيعقل أن الملك أرسلكم حتى تعترضوا طريقي؟"

قام قطاع الطرق برفع هرواتهم في نفس الوقت دون أن ينبسوا ببنت شفة. فأقعى ميلوس برشاقة في انحناء وانقض على الرجل الأقرب إليه، وانتشل منه هِراوته وصاح "أنا آسف. ولكن هذا من أجل العدالة!" وضرب ثلاثة منهم على الفور بغضب فأسقطهم أرضًا، وبسرعة ركض خلال الممر بينما كان الباقون يتراجعون.

 وصل إلى سفح الجبل في ركضةً واحدة ولكن بطبيعة الحال كان حينها مجهدًا. كانت شمس الظهيرة الحارقة مشرقة في حُمرَة. شعر ميلوس بالدوار عدة مرات وكان يستجمع شتات نفسه مؤمنًا أنه لا يمكنه التوقف هنا ويحارب هذا الشعور، مشي خطوتان وثلاث فخانته ركبتيه وسقط على الأرض ولم يستطع النهوض. نظر إلى السماء وبكى بحرقة.

آه يا ميلوس، لقد تخطيت كل هذا، سبحت خلال تيار موحل، ثم قضيت على ثلاثة من قطاع الطرق كالساكاندا. يا ميلوس الشجاع البطل، إنه من المخزي أن تعجز عن الحركة بسبب الإرهاق فهذا مثير للشفقة، قريبًا سيُقتل صديقك الذي وثق بك. حاول توبيخ نفسه قائًلا إنني هكذا رجل قليل الثقة مثلما ظن بي الملك.

ولكن قواه خارت ولم يستطع حتى التقدم كالدودة التي تزحف، فاستلقى على منطقة عشبية بجانب الطريق. عندما يتعب الجسد، تضعف الروح أيضًا. قال لنفسه لا شيء يهم بعد الآن، كشخصٍ عابس لا يليق كبطل وجد طريقه إلى قلبه.

فقد بذلت كل هذا المجهود، ولم يكن في نيته أبدًا نكث وعده، والرب شاهد أني ركضت بقصارى جهدي حتى أصبحت عاجزًا عن الحراك. أنا لست غير صادق. آه إن كان بمقدرتي لشققت صدري وأظهرت لكم قلبي القرمزي. أريد أن أريكم هذا القلب الذي لا يضخ سوى دم المحبة والصدق، ولكني اُستهلِكَت روحي وعزيمتي بأكملها. لقد كنت رجلًا تعيسًا للغاية. سيضحكون عليّ بالتأكيد، وسيسخر مني أهل بيتي لأنني خدعتُ صديقًا. الانهيار في المنتصف هو نفسه عدم القيام بشيء. آه، ولكن أيا يكن، لا يهم بعد الآن. قد يكون هذا قدري المحتوم. سامحني يا سليتينتيوس، فطالما وثقت بي، وأنا أيضًا لم أكن أخدعك. لقد كنا صديقين جيدين بالفعل ولم يسكن قلبنا قَطّ ظلام الشك ببعضنا البعض. فحتى أنت الآن تنتظرني بكل براءة، أجل، تنتظرني. شكرًا لك يا سليتينتيوس على إيمانك بي. عندما أفكر في الأمر، إنه لا يطاق. الثقة بين الأصدقاء هي الكنز الأكثر فخرًا في العالم. لقد ركضت يا سليتينتيوس. لم يكن لدي حتى النية أن أخدعك. صدقني! فقد أسرعت إلى هنا في عجالة، وتخطيت تيار مياه موحلة، وحاصرني قطاع الطرق حتى استطعت الإفلات منهم بسلاسة وجريت خلال الممر الجبلي حتى سفح الجبل على دفعة واحدة. فعلت كل هذا بنفسي.

آه لا تطلب مني المزيد. دع الأمر وشأنه، فلا يهم الأمر بعد الآن. لقد خسرتُ. كم كنت متهاونًا. لتضحكٍ أيها الملك، همست لي أن آتي متأخرًا وسيموت كبش الفداء ووعدتني أن أنجو أنا. كنت أكرة لؤم الملك، ولكن مما آل إليه الأمر فقد أصبحت تمامًا مثلما قال. سوف أتأخر. سيعتبر الملك أنني فعلت ذلك عمدًا كأمر مفروغ منه، سيضحك عليّ ويرسلني في سبيلي رجلًا حرًا. هذا بالنسبة لي مصيرٌ أسوء من الموت. هكذا سأُوصَف بالخائن إلى الأبد، أعظم عار عرفه الإنسان على وجه الأرض. لا يا سليتينتيوس، يجب أن أموت أنا أيضًا. أنت، وأنت وحدك، من سيصدق أن قلبي كان صادقًا. دعني أموت معك.

ولكن هل لي الأحقية لهذا؟ ألا يجب أن أعيش موصومًا بالعار والشر؟ لدي منزلي في القرية، ولدي خرافي، وبالتأكيد لن تطردني أختي وزوجها من منزلي. العدالة، والإيمان، والحب، كلها هراء عندما تفكر في الأمر. العيش بقتل الناس. أليس هذا القانون الثابت لعالم البشر؟ آه، الأمر برمته سخيف. أنا خائن بشع، ولا يهم ما أفعله. واحسرتاه.

 عندما استلقى ميلوس وذراعيه وساقيه على الأرض، بدأ يغلبه النوم. فجأة سمع صوت خرير مياه تتدفق، رفع رأسه بلطف وأسندها إلى الوراء وحبس أنفاسه وأنصَت، بدا أن الماء يتدفق تحت موطئ قدمه مباشرة، ترنح حوله ليرى مياه نقية تتدفق من شق صغير في صخرة كأنها تهمس له بهدوء. جثم ميلوس أمام نبع الماء الذي يشير إليه، غرف الماء بكلتا يديه وأخذ رشفة. أخرج نفسًا طويلًا كمن استفاق من حلم. أستطيع المشي، سأذهب. مع تعافي جسده من الإرهاق شعر ببصيص من الأمل. أمل في الوفاء بالتزامات المرء. الأمل في أن يُقتَل دفاعًا عن شرفه. تلقي شمس الغروب ضوءها الأحمر على أوراق الأشجار، فتسطع الأوراق والأغصان كأنها تحترق.

مازال هناك بعض الوقت حتى الغروب. يوجد رجلٌ ينتظرني. ينتظرن عودتي بصبر دون أن يشك بي أبدًا. إنه يؤمن بي. حياتي لا قيمة لها، لا استطيع أن أقول أشياء كـآسف على موتي. لابد لي من رد الثقة. ليس أمامي سوى شيء واحد الآن. اركض يا ميلوس!

إنه يثق بي! إنه يثق بي! تلك الوسوسات الشيطانية منذ قليل كانت حلمًا، حلمًا سيئًا. انساه. يأتي للمرء أحلام كهذه عندما يتعب جسده ولا عار في ذلك. كما توقعت أنك بطل شجاع يا ميلوس، ألم تستطع النهوض والركض مرة أخرى؟ أنا شاكرٌ للرب! سأتمكن من الموت كرجل صالح. آه، ستغرب الشمس، ستغرب عما قريب. انتظر يا زيوس، لقد كنتُ رجل أمين في حياتي، اسمح لي أن أكون أمينًا في مماتي.

ركض ميلوس كالرياح العاتمة تدفع الناس بعيدًا عن الطريق وترسل بعضهم طيرانًا، أذهل حشدًا من المحتفلين الذين تجمعوا للاحتفال في حقل عشبي من اندفاعه المتهور وسطهم، ركل الكلاب من طريقه وقفز متجاوزًا الجداول، حيث ركض أسرع بعشر مرات من الشمس التي تغرب. وفي لحظة ما مر سريعًا بجانب مجموعة من المسافرين سمع تلك الكلمات المشؤومة: "هذا الرجل مُعلّق على الصليب الآن.

" آه، هذا الرجل، أنا أركض من أجله الآن. لن أدع هذا الرجل يموت. أسرع يا ميلوس! لا يمكنك التأخر. سأريه الآن قوة المحبة والصدق.

جَرّد ملابسه وأصبح شبه عاريًا تمامًا، لأن المظاهر لا تهم الآن، واستمر بالركض، كان بالكاد قادرًا على التنفس وسعل دماءً مرتان أو ثلاث. أراه الآن! يمكنني رؤية برج مدينة سيراكيوز عن بُعد، يضيء البرج بشكل مشرق في غروب الشمس.

وصل أذنيه صوت مثل الأنين مع صوت الرياح "آه، إنه ميلوس، أليس كذلك؟"

سأله ميلوس وهو يركض "من أنت؟"

صرخ عامل البناء الشاب وهو يركض وراء ميلوس أيضًا "أنا فلوستراتوس تلميذ صديقك سليتينتيوس".

"لقد فات الأوان بالفعل، لا غاية من الركض بعد الآن، توقف رجاءً، لم يعد بمقدورك مساعدته"

"لا، لم تغرب الشمس بعد"

"إنه على وشك أن يُعدم الآن، آآه لقد تأخرتَ. واسفاه، تمنيت لو كنت مبكرًا قليلًا!"

قال ميلوس وقلبه مفطور ويحدق في قرص الشمس الأحمر الكبير "لا، الشمس لم تغرب بعد" ليس له خيار سوى الركض.

"أتوسل إليك يا سيد توقف رجاءً، حياتك هي ما تهم الآن. لقد وثق سيدي بك، حتى عندما جاءوا به إلى ساحة الإعدام ظل غير قلق، وعندما ضحك عليه الملك وسخر منه قال له ‘سيعود ميلوس‘ لم يهتز إيمانه بك حتى النهاية"

"لهذا السبب علي أن أركض، أنا أركض من أجل إيمانه ومن أجل ثقته. لا يهم إن وصلت في الميعاد أم لا فهذه ليست المسألة، الأمر ليس متعلق بحياة رجل واحد فحسب. أنا أركض لسبب أعظم وأكثر رهبة من الموت، اركض معي يا  فلوستراتوس!"

"آه، هل الجنون ما يدفعك إذن؟ فهمت يا سيدي، فلتركض بكل أوتيت، لعلك تصل في الميعاد المناسب، اركض!"

سأفعل حتى إن لم تخبرني! فلم تغرب الشمس بعد. ركض ميلوس حتى آخر ما لديه من قوته. رأسه فارغ، لا يفكر بأي شيء. ركض مسحوبًا بقوة لا يعرف حتى من أين أتت. كانت الشمس على وشك الغروب وكانت آخر ذرة من الضوء على وشك الاختفاء عندما اندفع ميلوس كالعاصفة إلى ساحة الإعدام. قد وصل في الوقت المناسب.

كان ينوى أن يصرخ بصوت عظيم أمام الجماهير في ساحة الإعدام "توقف، لا يجب أن تقتل هذا الرجل. فقد عاد ميلوس، عاد لتوه مثلما وعد." ولكن صوته أجش وخافت ولم يلحظ أحد من الجمهور وصوله. تم نصب خشبة الصليب بالفعل عاليًا، ورُفع عليه سليتينتيوس الذي كان مربوطٌ به تدريجيًا. شَهَدَ ميلوس هذا فاستجمع آخر شجاعته واندفع يسبح خلال الحشود كما سبح خلال المياه الموحلة منذ قليل، يدفع، ويدفع.

صرخ بكل قوته وبصوته الأجش بينما كان يتسلق أخيرًا الصليب ويتشبث في أرجل صديقه الذي كان يُرفَع "إنه أنا، يا مُنفّذ الإعدام! أنا -ميلوس- من عليه أن يُقتَل. أنا، من جعلت من هذا الرجل رهينة، موجود هنا!"

سارت ضجة بين الحشد، وارتفعت صيحات "الحمد للرب!" و"حرروه!" من جميع الجهات، ثم أُنزَل سليتينتيوس من الصليب وتم حل وثاقه.

قال ميلوس والدموع تغرورق في عينه: "سليتينتيوس، اضربني، اضربني في وجهي. لقد راودني حلمًا سيئًا واحدًا أثناء طريقي. إذا لم تضربني، فلن يكون لي الحق حتى في معانقتك. اضربني."

أومأ سليتينتيوس كما لو كان قد خمّن كل شيء، ولكم ميلوس على خده الأمين بصوت عالٍ لدرجة أنه دوى في جميع أنحاء ساحة الاعدام. بعدما ضربه ابتسم بلطف،

"ميلوس، اضربني. اضربني على خدي بأعلى صوت ممكن. فخلال هذه الأيام الثلاثة، شككت فيك لمرة واحدة فقط. شككت فيك لأول مرة في حياتي. إن لم تضربني، فلن استطع معانقتك."

زمجر ميلوس على ذراعه ولكم سليتينتيوس على خده.

قال كلاهما في نفس الوقت "شكرًا لك يا صديقي" ثم تعانقا وانفجرا في دموع الفرح.

جاء البكاء أيضًا من الحشد. جلس الطاغية ديونيسيوس على مقعده خلف الحشد وحدق باهتمام في الصديقين لبعض الوقت، ثم سار بهدوء إلى حيث وقفا، واحمر وجهه وهو يتكلم، "لقد تحققت أمنيتكما وربحتا قلبي. حقًا لم يكن الصدق أبدًا وهمًا فارغًا. اسمحا لي أن أكون صديقًا لكم، أرجو أن تقبلا أمنيتي وتدعوني أكون صاحبًا لكم".

انطلقت هتافات السعادة وسط حشد الجماهير "يحيا الملك، يحيا الملك".

جاءت فتاة من الجماهير وأعطت ميلوس عباءة قرمزية، فتحير ولم يفهم ولكن صديقه الجيد سرعان ما فسر له.

"ألست عريانًا بالكامل يا ميلوس؟ اسرع وضَع العباءة، فهذه الفتاة اللطيفة لا تريد رؤية جسدك العاري"

أحمر وجه البطل في خجل.


النهاية.



(من اسطورة قديمة وقصيدة لشيلر)

=============

رابط القصة الأصلية

=============

ملاحظات:

المؤلف أوسامو دازاي: روائي ياباني، ويعتبر الآن من أبرز الروائيي اليابان في القرن العشرين. تعد بعض أشهر أعماله "لم يعد إنسانًا و"الشمس الغاربة" من أهم الكلاسيكيات الحديثة في اليابان.(ويكيبيديا)


زيوس هو إله السماء والبرق والرعد والقانون والنظام والعدالة في الأغريق القديمة ويلقب بأب الآلهة والبشر. فهو الذي يحكم آلهة جبال الأوليمب باعتباره الأب الوريث.(ويكيبيديا)


سكاندا والمعروف باسم إيداتين في اليابانية هو يعتبر وُصيًّا مخلصًا للأديرة البوذية الذي يحمي تعاليم بوذا. وهو أحد الأربعة وعشرين آلهًا المذكورين في السُترا.(ويكيبيديا)






Comments